فن

عائشة لا تستطيع الطيران: الحياة من وراء النافذة

«عائشة لا تستطيع الطيران»... ليس مجرد فيلم، بل تجربة جريئة تنبض بصدق الواقع، وتُريك وجهًا آخر للمدينة لم تجرؤ السينما على كشفه من قبل.

future الملصق الدعائي لفيلم «عائشة لا تستطيع الطيران»

تمتلك السينما المصرية في تاريخها ما يُقدَّر بحوالي 4000 فيلم، تاريخ كبير وثري يجعل من مهمة أيّ مخرجٍ صاعدٍ أن يصنع شيئًا مختلفًا عمليةً شبه مستحيلة، فمدارس السينما المصرية مختلفة ومتشعبة وأساتذتها كُثر. لكن فيلم مراد مصطفى الروائي الطويل الأول «عائشة لا تستطيع الطيران»، المعروض في قسم «نظرة ما» في الدورة الـ78 لمهرجان كان، هو بالتأكيد واحد من تلك الأفلام الطليعية المختلفة بشكل كبير عن ذلك الإرث السينمائي، والمضيفة له شكلًا وموضوعًا.

مراد مصطفى اسم معروف في دوائر صناعة السينما المصرية والعالمية أيضًا، من خلال عمله مساعدًا للإخراج أو مخرجًا منفذًا للعديد من الأفلام، وبينها «سعاد» لآيتن أمين، أو بواسطة أفلامه القصيرة: «حنة ورد»، «ما لا نعرفه عن مريم»، «خديجة»، وأحدثها «عيسى» التي شاركت في أكبر المهرجانات السينمائية العالمية والإقليمية الكبرى، وبينها كليرمون فيران، وكان، والقاهرة، والجونة.

منذ فيلمه القصير الأول «حنة ورد» دلف مراد إلى عالم المهمّشين ذوي البشرة السمراء في القاهرة، من خلال امرأة سودانية وابنتها وعملهما في الحنة، ثم انتقل إلى حكي حكايتين عن امرأتين مصريتين من ذات الطبقة تقريبًا، ثم تبعهما بعودة إلى عالم المهاجرين في مصر بفيلمه «عيسى».

مشروع سينمائي لا فيلم

في تلك الأفلام، ركّز مصطفى على مواضيع بينها الأمومة، والمهاجرين، والمهمشين، هؤلاء الذين لا تراهم عادةً على شاشات السينما ولا في الحياة اليومية، يمرّون كأشباح بجانبك، ربما تقابلهم لكن لا تنتبه لهم، بينما مراد يضعهم في منتصف أفلامه، يمنحهم مساحة لا تمنحها الحياة لهم. اهتمام مراد بتلك الشخصيات آتٍ من حي عين شمس الذي نشأ به، وهو الحي ذو الخليط الاجتماعي بين المصريين، وغيرهم من المهاجرين. في «عائشة لا تستطيع الطيران» يُكمِل على ذات المنوال، فبطلته عائشة، جنوب سودانية، تعمل ممرضة وخادمة لكبار السن، تسكن في بيتٍ متهالكٍ في منطقة شعبية، وتضطر لتسهيل سرقات لتحتفظ فقط بهذا السكن.

الجانب الآخر المشترك بين فيلم مراد الطويل وأفلامه القصيرة هو المكان. في «حنة ورد» نرى نزلة السمان، وفي «خديجة» نشاهد إمبابة، وننتقل بين دير سمعان الخراز وشوارع وأنفاق القاهرة في «عيسى»، وفي حالة «عائشة» فإن الفيلم يدور بين وسط البلد وأحياء أفقر كتلك التي تقطنها عائشة.

تتحرّك بمترو الأنفاق، والذي يجعله مراد مشابهًا لمترو باريس برسومات جرافيتي على جدران عربات المترو، لتصل إلى بيتها المتهالك، والمهدَّم، والمتعرِّض للضرر من العراكات التي تحدث خارجه. يلعب إذًا المكان وتصميم المناظر عنصرًا أساسيًا في مشروع مراد السينمائي، فيُصوّر أماكن بعضها حقيقي وبعضها مصمَّم، تنقل روحًا معيَّنة لوجهة نظره عن المدينة كموقعٍ دراميٍّ مؤثِّر وفاعل.

إضافةً إلى ذلك، يشترك «عائشة» مع بقية أفلامه في اللقطات التتبعية، والقطع الحاد العنيف، والألوان البنية والرمادية، والإضاءات الباردة البرتقالية والبيضاء، إلى جانب شريط الصوت المليء بالضوضاء أو حتى بأصوات الأماكن ذاتها، الداخلية والخارجية، والتي عادةً ما تنقل إحساس الشخصيات، وخاصة عائشة الصامتة بشكل كبير. نسمع ضوضاء مكتب التشغيل، وكلاكسات السيارات في الشوارع، وأصوات العراك خارج بيتها، وحتى في اللحظات التي تهدأ فيها الأصوات نجد نوعًا من أزيز أو صوتٍ مزعجٍ متكرِّرٍ أو حتى صمتٍ موتر، وتنقل كل تلك الأصوات لنا مشاعر عائشة بينما تحاول النجاة يومًا تلو الآخر.

نعامة تحاول الهرب من مثلث عنيف

تخضع عائشة، طوال الفيلم، لديناميكيات قهرٍ ذكوريٍّ من مديريها، والمرضى الذين تخدمهم، ومن مالك البيت الذي يدفعها لتسهيل سرقاته، بينما تسرق لحظاتٍ من فرحٍ وأمانٍ مع حبيبها الطباخ الذي يخشى أن يتصدى لأهله بينما يقاومون قصة الحب تلك، أو مع صديقاتها في بيوتهن وهن يرقصن. لحظات سعادةٍ مختزلة وسط أجواء مشحونة للغاية. لكن عائشة ليست النموذج الذي تعودنا أن نراه في الأفلام التي تتناول المهاجرين كشخصياتٍ مستضعفةٍ لطيفةٍ تقابل القهر بابتسامة وديعة. نراها تصارع، وتأخذ حقها تارةً، أو حتى تُخطط لأخذه، ما يجعلنا نراها شخصيةً أقرب إلى الحقيقة، دون ملائكيةٍ مصطنعةٍ أو شرٍّ مزيف.

الشارع أمام بيتها يحكمه «فتوة» شاب وأصدقاؤه، يضعون أريكة قديمة وسط الشارع وكأنهم مجلس إدارة تلك المنطقة، وإلى جانبهم عربة محطمة تعمل ككارافان صغير لأعمالهم الملتوية. جدير بالذكر أيضًا أن مراد يعتمد في دور عائشة، كما في أفلامه السابقة، على ممثلة غير محترفة، لكنه يستطيع توجيهها لأداءٍ مذهلٍ مصدَّقٍ بشدة، ويضع في دور الفتوة المغني الشاب الشهير زياد ظاظا في دورٍ هو الثاني له بعد فيلم «60 جنيه» لعمرو سلامة، لكنه هنا يظهر بمساحةٍ أكبر، وأكثر احترافًا، وخارج منطقة الغناء التي كانت في فيلم سلامة.

الفتوة ليس هو الوحيد الذي يضع عائشة محل الابتزاز، فينضم إليه صاحب مكتب التشغيل، والرجل المريض الذي تخدمه، فيشكّلون نوعًا ما من مثلث لا تستطيع الخروج منه، لكن ذلك لا يمنع من استخدامها أحيانًا لبعضهم ضد بعض للتقليل من مدى الأذى الذي تخضع له. هذا المثلث يكشف أيضًا عن نقطةٍ أساسيةٍ مهمة في فيلم مراد الأحدث، وهي أن تلك الحكاية هي عن العنف كموضوع، بقدر ما هي عن عائشة، نرى الأطفال في الشارع يلعبون بمسدسات مياه، كما نرى الطفل حفيد الرجل الذي تخدمه يطلب منها أن تلعب معه لعبة «باتمان» و«الجوكر»، إذًا يرى مراد العنف كشيءٍ مستمر أو ممتدٍّ بين الأجيال.

على الرغم من ذلك، فإنه غير مشغول بتفسيره، وإنما فقط بتصويره دون أيّ مساومة، يظهره كما هو، بشكل يشبه عنف الفيلم البرازيلي «مدينة الرب» أو «فيل» لجاس فان سانت. هذا الإظهار، الذي ربما يكون الاختيار الجدلي بشكل ما في الفيلم، يجعلنا ربما غير مرتاحين لما نشاهده، لكنه يجعلنا بعدها نمارس دورنا في التفكير في ماهية هذا العنف، وأسباب استشرائه. وسط كل هذا العنف، ومع صمت عائشة معظم الوقت، يضع مراد عنصرًا سحريًا هو نَعامة تظهر لعائشة، وربما تعمل تلك النعامة كنوعٍ من إظهار أن عائشة تدفن رأسها في الرمال وتحاول أن تتجاهل مدى قسوة الواقع المحيط بها، فتكون كمن يرى الحياة من وراء ستار، وتحاول أن تهرب داخل عقلها مما يجري بتجاهله. لكن النعامة أيضًا كائن قوي إذا ما تمّ محاصرتها بالخطر، ما يجعل استخدام تلك النعامة مجازًا بصريًا مثاليًا عن شخصية عائشة.

اختيار غير تفاوضي

قبل ختام هذا المقال، المستغرق لوقتٍ طويل لما في الفيلم من أفكارٍ وأسلوبٍ سينمائي يستحقان التوقف عندهما، هناك نقطة أردتُ التعليق عليها، نظرًا لما أثير من جدلٍ عن الفيلم في بعض المقالات النقدية أو المراجعات، بخصوص كثرة مشاركة الفيلم في معامل التطوير، وما يُقال عنه إنه فيلم نِتاج لتلك المعامل التي تدفع بأجندات مختلفة، هو أن هذا الفيلم بشكل ما هو فيلم معامل من الخارج، كونه بطلته امرأة مهاجرة مهمشة تخضع لعنفٍ ذكوري، لكن إذا ما تعمقنا في النظر، فإننا سنرى أن مراد لم يختر الطريق الأسهل بتقديمه لشخصيةٍ محبوبة/أليفة أكثر، أو تقليل مساحات العنف، فيكون مثل معظم الأفلام التي تحكي عن لاجئين وتصورها بشكل ملائكي يعجب الجميع ويريح ضمائرهم، بل هنا نرى عالمًا مظلمًا بحق لا تقلّ قسوته عن قسوة الواقع، بل ربما تفوقها كنوعٍ من واقعيةٍ مبالغ بها، وهو حتمًا الاختيار الأكثر جرأة، والأقل تفاوضًا مع معطيات التوزيع والعرض.

«عائشة لا تستطيع الطيران» فيلم يتخذ من عوالم المهاجرين موضوعًا له، لا يتنازل ولا يساوم عن تصوير أو وضع أي عنصر من عناصر قصته البصرية، مهما كلّف ذلك من تقليل جماهيرية الفيلم، كما يدخل في مناطق وأنواعٍ سينمائية، بينها رعب الجسد، وعوالم الواقعية السحرية، لم نر مثلها من قبل في السينما المصرية، ما يجعل ذلك الفيلم محطة فارقة جديدة في تاريخ تلك السينما العظيمة

# فن # سينما # أفلام أجنبية # مهرجان كان السينمائي

فيلم Sirat: تعزية صوفية لأب حزين
فيلم The Secret Agent: لماذا نقاوم وكم مرة يجب أن نموت؟
الحياة بعد سهام: بطولة مطلقة للعائلة

فن